فصل: تفسير الآيات (11- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.سورة العنكبوت:

.تفسير الآيات (1- 10):

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)}
{الم} سبق القول فيه، ووقوع الاستفهام بعده دليل استقلاله بنفسه أو بما يضمر معه.
{أَحَسِبَ الناس} الحسبان مما يتعلق بمضامين الجمل للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين أو ما يسد مسدهما كقوله: {أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} فإن معناه أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم {آمنا}، فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم {آمنا} هو الثاني كقولك: حسبت ضربه للتأديب، أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم {مِنَ} بل يمتحنهم الله بمشاق التكاليف، كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإِيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب. روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين، وقيل في عمار وقد عذب في الله تعالى، وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} متصل ب {أَحَسِبَ} أو ب {لاَ يُفْتَنُونَ}، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه. {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقاً حالياً يتميز به الذين صدقوا في الإِيمان والذين كذبوا فيه، وينوط به ثوابهم وعقابهم ولذلك قيل المعنى وليميزن أو ليجازين، وقرئ: {وليعلمن} من الإِعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو لَيَسِمَنَّهُمْ بِسِمَةٍ يَعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها.
{أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات} الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح. {أَن يَسْبِقُونَا} أن يفوتونا فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم وهو ساد مسد مفعولي {حَسِبَ} لاشتماله على مسند ومسند إليه ويجوز أن يضمن {حَسِبَ} معنى قدر أو أم منقطعة والإِضراب فيها لأن هذا الحسبان أبطل من الأول ولهذا عقبه بقوله: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس الذي يحكمونه، أو حكماً يحكمونه حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم.
{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} في الجنة، وقيل المراد بلقاء الله الوصول إلى ثوابه، أو إلى العاقبة من الموت والبعث والحساب والجزاء على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد وقد اطلع السيد على أحواله، فأما أن يلقاه ببشر لما رضي من أفعاله أو بسخط لما سخط منها. {فَإِنَّ أَجَلَ الله} فإن الوقت المضروب للقائه. {لأَتٍ} لجاء وإذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء كائناً لا محالة، فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يستوجب به القربة والرضا.
{وَهُوَ السميع} لأقوال العباد. {العليم} بعقائدهم وأفعالهم.
{وَمَن جَاهَدَ} نفسه بالصبر على مضض الطاعة والكف عن الشهوات. {فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ} لأن منفعته لها. {إِنَّ الله لَغَنِىٌّ عَنِ العالمين} فلا حاجة به إلى طاعتهم، وإنما كلف عباده رحمة عليهم ومراعاة لصلاحهم.
{والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} الكفر بالإِيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي أحسن جزاء أعمالهم.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} بإيتائهما فعلاً ذا حسن، أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفاً. وقيل هو بمعنى قال أي وقلنا له أحسن بوالديك {حَسَنًا}، وقيل: {حَسَنًا} منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما {حَسَنًا} وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على {بوالديه}، وقرئ: {حَسَنًا} و{إحساناً}. {وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعاراً بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلاً عما علم بطلانه. {فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولابد من إضمار القول إن لم يضمر قبل. {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق. {فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بالجزاء عليه، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة، فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التي في (لقمان) و(الأحقاف).
{والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصالحين} في جملتهم والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين، أو في مدخلهم وهو الجنة.
{وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ في الله} بأن عذبهم الكفرة على الإِيمان. {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس} ما يصيبه من أذيتهم في الصرف عن الإِيمان. {كَعَذَابِ الله} في الصرف عن الكفر. {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مّن رَّبِّكَ} فتح وغنيمة. {لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} في الدين فأشركونا فيه، والمراد المنافقون أو قوم ضعف إيمانهم فارتدوا من أذى المشركين ويؤيد الأول. {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا في صُدُورِ العالمين} من الإِخلاص والنفاق.

.تفسير الآيات (11- 18):

{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}
{وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءَامَنُواْ} بقلوبهم. {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} فيجازي الفريقين.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا} الَّذِي نسلكه في ديننا. {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كانت تشجيعاً لهم عليه، وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله: {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَئ إِنَّهُمْ لكاذبون} من الأولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير: وما هم بحاملين شيئاً من خطاياهم.
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أثقال ما اقترفته أنفسهم. {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} وأثقالاً أخر معها لما تسببوا له بالإِضلال والحمل على المعاصي من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. {وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ القيامة} سؤال تقريع وتبكيت. {عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الأباطيل التي أضلوا بها.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} بعد المبعث، إذ روي أنه بعث على رأس الأربعين ودعا قوماً تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين، ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة إلى السامع، فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما يكابده من الكفرة واختلاف المميزين لما في التكرير من البشاعة. {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} طوفان الماء وهو لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو نحوهما. {وَهُمْ ظالمون} بالكفر.
{فأنجيناه} أي نوحاً عليه الصلاة والسلام. {وأصحاب السفينة} ومن أركب معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين. وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث. {وجعلناها} أي السفينة أو الحادثة. {ءَايَةً للعالمين إِنَّ} يتعظون ويستدلون بها.
{وإبراهيم} عطف على {نُوحاً} أو نصب بإضمار اذكر، وقرئ بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله} ظرف لأرسلنا أي أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وأمر الناس به، أو بدل منه بدل اشتمال إن قدر باذكر. {واتقوه ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} مما أنتم عليه. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير والشر وتميزون ما هو خير مما هو شر، أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل.
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} وتكذبون كذباً في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله تعالى، أو تعملونها وتنحتونها للإِفك وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل، وقرئ: {تخلقون} من خلق للتكثير {وَتَخْلُقُونَ} من تخلق للتكلف، و{إِفْكاً} على أنه مصدر كالكذب أو نعت بمعنى خلقاً ذا إفك.
{إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} دليل ثان على شرارة ذلك من حيث إنه لا يجدي بطائل، و{رِزْقاً} يحتمل المصدر بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم وأن يراد المرزوق وتنكيره للتعميم. {فابتغوا عِندَ الله الرزق} كله فإنه المالك له. {واعبدوه واشكروا لَهُ} متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره، أو مستعدين للقائه بهما، فإنه: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقرئ بفتح التاء.
{وَإِن تُكَذِّبُواْ} وإن تكذبوني. {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} من قبلي من الرسل فلم يضرهم تكذيبهم وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم. {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} الذي يزال معه الشك وما عليه أن يصدق ولا يكذب، فالآية وما بعدها من جملة قصة {إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} ويحتمل أن تكون اعتراضاً بذكر شأن النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم، توسط بين طرفي قصته من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنفيس عنه، بأن أباه خليل الله صلوات الله عليهما كان ممنواً بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.

.تفسير الآيات (19- 27):

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئ الله الخلق} من مادة ومن غيرها، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء على تقدير القول وقرئ: {يبدأ}. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} إخبار بالإِعادة بعد الموت معطوف على {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} لا على {يُبْدِئ}، فإن الرؤية غير واقعة عليه ويجوز أن تؤول الإِعادة بأن ينشئ في كل سنة مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما وتعطف على {يُبْدِئ}. {إِنَّ ذلك} الإِشارة إلى الإِعادة أو إلى ما ذكر من الأمرين. {عَلَى الله يَسِيرٌ} إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء.
{قُلْ سِيرُواْ في الأرض} حكاية كلام الله لإِبراهيم أو محمد عليهما الصلاة والسلام. {فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} على اختلاف الأجناس والأحوال. {ثُمَّ الله يُنشِئ النشأة الآخرة} بعد النشأة الأولى التي هي الإِداء، فإنه والإِعادة نشأتان من حيث أن كلاً اختراع وإخراج من العدم، والإِفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في بدأ والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإِعادة، وأن من عرف بالقدرة على الإِبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإِعادة لأنها أهون والكلام في العطف ما مر، وقرئ: {النشاءة} كالرآفة. {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى.
{يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} تعذيبه. {وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ} رحمته. {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} تردون.
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} ربكم عن إدراككم. {فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} إن فررتم من قضائه بالتواري في الأرض أو الهبوط في مهاويها، والتحصن {فِى السماء} أو القلاع الذاهبة فيها وقيل ولا من في السماء كقول حسان:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ الله مِنْكُم ** وَيَمْدَحهُ وَيَنْصُرهُ سَوَاء

{وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم.
{والذين كَفَرُواْ بئايات الله} بدلائل وحدانيته أو بكتبه. {وَلِقَائِهِ} بالبعث. {أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى} أي ييأسون منها يوم القيامة، فعبر عنه بالماضي للتحقق والمبالغة، أو أيسوا في الدنيا لإنكار البعث والجزاء. {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بكفرهم.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} قوم إبراهيم له. وقرئ بالرفع على أنه الاسم والخبر. {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرّقُوهُ} وكان ذلك قول بعضهم لكن لما قيل فيهم ورضي به الباقون أسند إلى كلهم. {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} أي فقذفوه في النار فأنجاه الله منها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً. {إِنَّ في ذَلِكَ} في إنجائه منها. {لآيَاتٍ} هي حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها في زمان يسر وإنشاء روض مكانها. {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنهم المنتفعون بالتفحص عنها والتأمل فيها.
{وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ في الحياة الدنيا} أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها، وثاني مفعولي {اتخذتم} محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثان سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة، وقرأها نافع وابن عامر وأبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم، والجملة صفة {أوثانا} أو خبر إن على {إِنَّمَا} مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول، وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح {بَيْنِكُمْ} كما قرئ: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وقرئ: {إنما مودة بينكم}. {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم، أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} {وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين} يخلصونكم منها.
{فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} هو ابن أخيه وأول من آمن به، وقيل إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه. {وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ} من قومي. {إلى رَبّى} إلى حيث أمرني. {إِنَّهُ هُوَ العزيز} الذي يمنعني من أعدائي. {الحكيم} الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. روي أنه هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوط وامرأته سارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} ولداً ونافلة حين أيس من الولادة من عجوز عاقر ولذلك لم يذكر إسماعيل. {وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِ النبوة} فكثر منهم الأنبياء. {والكتاب} يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة. {وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ} على هجرته إلينا. {فِى الدنيا} بإعطاء الولد في غير أوانه، والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وإنماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر. {وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين} لفي عداد الكاملين في الصلاح.